في الوقت الذي تبدو فيه تجربة الدخول إلى غرفة العمليات قاتمة، وباعثة على القلق والضيق لدى البعض، يدخر بعض أطباء الجراحة مفاجآت وتدابير خاصة لقضاء وقت ممتع في الداخل، خصوصاً حين يمتد وقت الجراحة لساعات طويلة في حالة التخدير النصفي، وعمليات الجراحة اليقظة تلك التي يكون المريض واعياً خلالها لما يجري، وقلقاً أيضاً بشأن ما يجري، هنا تكون الحاجة ماسة إلى أنشطة للقيام بها أثناء وقت الاستلقاء الطويل فوق طاولة الجراحة، إما لأغراض طبية أو لأغراض نفسية.
قد يبدو الأمر من قبيل الرفاهية، لكنه ليس كذلك، فبحسب دراسة بعنوان: «الفنون والمشارط: استكشاف دور الفن في الجراحة» فالتقاطع بين الفن والجراحة كبير، ووجود صور من الفن بمختلف أشكاله داخل غرف العمليات لا يفيد المريض وحده ولكنه أيضاً مهم للطبيب والفريق المعاون داخل غرفة العمليات، إذ تشير الدراسة إلى أن الجراحة في حد ذاتها عمل فني، يتضمن تأمل التقنيات، واستحسان لطرق على أخرى، هكذا يصير تذوق الموسيقى والأدب والفنون البصرية جزءاً من العمليات الجراحية الكبرى، مهما بلغت دقتها أو صعوبتها.
في جراحة استمرت أربع ساعات متواصلة، لم يجد المصور المصري الدكتور علاء فريد سبيلاً لتمضية الوقت سوى القراءة، لكن قصته حملت عديداً من المفاجآت اللافتة، فهو أحد مؤسسي فريق أيزو، المسئول عن المبادرة السنوية لتوثيق وتصوير كل صناع الثقافة في مصر، خلال معرض القاهرة الدولي، التي اشتهرت بالصورة الرسمية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، لم يتخيل لحظة أن الرجل الذي سبق وقام بتصويره أديباً هو ذاته الطبيب الذي سيجري له العملية الجراحية.
كان علاء قد تعرض قبل عامين إلى حادث سقوط، تسبب في تركيب 16 مسماراً وشريحتين في قدم، وأربعة مسامير في القدم الأخرى، وهو ما استلزم عمل عملية سابقة لفك المسامير الأربعة، لكن بقية الأجزاء داخل قدمه الثانية، حتى رفضهم جسده، وبدأت الأوجاع التي استلزمت التدخل الجراحي.
دكتور أسامة عبدالرؤوف الشاذلي، الروائي، والطبيب من أفضل المتخصصين في جراحات القدم والكاحل، هكذا جاءته النصيحة من أكثر من متخصص فوجد نفسه أمام اختيار القدر له، صديقه وكاتبه المفضل، وأحد أفضل الأطباء في التخصص، الذي يجري العمليات في المستشفى ذاتها التي يتعامل معها، هكذا تم تحديد موعد للعملية، لكن علاء الذي كان يعرف جيداً كيف يمر الوقت ثقيلاً ومؤذياً داخل غرفة العمليات، قرر أنه سوف يمضي وقته هذه المرة بطريقة مختلفة.
يقول: «كنت قد قرأت لدكتور أسامة رواية أوراق شمعون المصري، وكانت رواية قوية، وأردت أن أقرأ عهد دميانة، لذا وبينما كان الممرضون يقومون بتجهيزي، سألت الدكتور أسامة إن كان لديه نسخة من الرواية، فجلبها لي، وبدأت قراءتها قبيل العمليات واصطحبتها معي إلى هناك، طوال 4 ساعات، وحتى بعد انتهاء العملية إذ بقيت في المستشفى محجوزاً للمتابعة، حتى إنني كنت أناقشه أحياناً في بعض الأجزاء أثناء العملية، مما خفف عني عبء التركيز مع الأصوات من حولي أو رغبتي المستمر في الحركة أو الشعور بالملل، فقد كانت رواية خالية من المط والتطويل، سلسلة جداً وممتعة، وجذابة».
لا يزال الدكتور أسامة عبد الرؤوف الشاذلي يذكر الدكتور علاء فريد، تماماً كما يذكر ذلك المريض الذي طلب منه تشغيل القرآن بدلاً من الموسيقى في غرفة العمليات، يقول: «في حالات البنج النصفي، يكون المريض مدركاً لكل ما حوله، ورغم وجود ستارة تحجب عنه المشهد، إلا أن أصوات المناشير والشواكيش، والدق المتواصل قد يصيبه بالتوتر، فعملنا يشبه أعمال النجارة، لذا نلجأ إلى طرق من أجل تبديد المشاعر السلبية، سواء بتشغيل موسيقى أو أغان يحبها المريض أو قرآن أو بنشاط آخر كالقراءة مثلما حدث مع علاء فريد، المهم أن يكون الجو هادئاً وأن يشعر المريض بالراحة».
وأضاف عبدالرؤوف أن بعض المرضى يستخدمون آلات موسيقية أثناء العمليات، للعزف كوسيلة لتمضية الوقت وضمان عمل الدماغ بشكل مناسب، لكن المهم أن يكون حجم الآلة صغيراً، ومناسباً بحيث يمكن للمريض استخدامها أثناء استلقائه من دون تأثير على سير العملية أو على المريض نفسه».
في نيوجيرسي، اختارت سيلينا كامبيوني، أن تغني لتايلور سويفت أثناء خضوعها إلى جراحة إزالة ورم في المخ، ليس فقط لتمضية الوقت، ولكن أيضاً للحفاظ على قدرتها على الكلام، وذلك كجزء من تقنية تدعى Quicktome Brain Mapping، اعتمدتها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، لرسم خريطة للدماغ أثناء الجراحة، عبارة عن صور مرئية توضح كيفية عمل دماغ الشخص بألوان تتراوح بين البرتقالي والوردي، لبيان قدرتها على أداء الوظائف المعقدة مثل الكلام والحركة والإدراك، أثناء الجراحة، بخاصة خلال العمليات الجراحة بالمخ، ويسهم استخدامها أثناء الجراحة في الحفاظ على تلك الأجزاء بعيداً عن أي أخطاء محتملة.
ليس هذا وحسب، فبحسب دراسة بعنوان: «تأثير تشغيل الموسيقى أثناء الجراحة على أداء الفريق الجراحي» خلص باحثون إلى التأثيرات الإيجابية للموسيقى على الفريق الجراحي، وتحسين أدائه أثناء العمل داخل غرفة العمليات لأوقات طويلة، مع الأخذ في الحسبان ألا يكون الفريق هو نفسه المسئول عن عمليات التشغيل تجنبها لتشتت الانتباه والتركيز.
في شهر أكتوبر من عام 2022 خضع عازف موسيقى مخضرم إلى عملية جراحية معقدة بالمخ، استمرت تسع ساعات، في مستشفى بايديا الدولي في روما، لكن اللافت أن الرجل الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، بقي خلال ما يعرف بالجراحة أثناء اليقظة يعزف بتمكن لافت على آلة الساكسفون، لكن الهدف هنا لم يكن التسلية، بقدر الملاحظة والمتابعة لأي تغييرات قد تطرأ على وظائفه العقلية، والعصبية أثناء ساعات العمل الطويل داخل رأسه.
لهذا السبب أيضاً قرر القائمون على العملية الجراحية لداغمار تيرنر، في أحد مستشفيات لندن، تشجيعها كي تعزف على آلة الكمان التي تعزف عليها منذ كان عمرها 10 سنوات، هكذا ظلت تحرك قوس الكمان لأعلى وإلى أسفل، وتعزف ببراعة، بينما الجراحون يزيلون الورم عن دماغها خلف الحاجز البلاستيكي في مستشفى كينجز كوليدج، لتنتهي العملية من دون تأثير على حركات اليد الدقيقة وقدرة داغمار على التنسيق، عبر الحفاظ على المناطق الحساسة في الدماغ، التي تسمح بالعزف والحركة.